الفصل الثالث في أن العلوم إنما تكثر حيث يكثر الثمران وتعظم الحضارة
والسبب في ذلك أن تعليم العلم كما قدمناه من جملة الصنائع. وقد كنا قدمنا أن الصنائع إنما تكثر في الأمصار. وعلى نسبة عمرانها في الكثرة والقلة والحضارة والترف تكون نسبة الصنائع في الجودة والكثرة لأنه أمر زائد على المعاش. فمتى فضلت أعمال أهل العمران عن معاشهم انصرفت إلى ما وراء المعاش من التصرف في خاصية الإنسان وهي العلوم والصنائع. ومن تشوف بفطرته إلى العلم ممن نشأ في القرى والأمصار غير المتمدنة فلا يجد فيها التعليم الذي هو صناعي لفقدان الصنائع في أهل البدو كما قدمناه ولا بد له من الرحلة في طلبه إلى الأمصار المستبحرة شأن الصنائع في أهل البدو. واعتبر ما قررناه بحال بغداد وقرطبة والقيروان والبصرة والكوفة لما كثرعمرانها صدر الإسلام واستوت فيها الحضارة كيف زخرت فيها بحار العلم وتفننوا في اصطلاحات التعليم وأصناف العلوم واستنباط المسائل والفنون حتى أربوا على المتقدمين وفاتوا المتأخرين. ولما تناقص عمرانها وابذعر سكانها انطوى ذلك البساط بما عليه جملة وفقد العلم بها والتعليم وانتقل إلى غيرها من أمصار الإسلام. ونحن لهذا العهد نرى أن العلم والتعليم إنما هو بالقاهرة من بلاد مصر لما أن عمرانها مستبحر وحضارتها مستحكمة منذ آلاف من السنين فاستحكمت فيها الصنائع وتفننت ومن جملتها تعليم العلم. وأكد ذلك فيها وحفظه ما وقع لهذه العصور بها منذ مائتين من السنين في دولة الترك من أيام صلاح الدين بن أيوب وهلم جرا. وذلك أن أمراء الترك في دولتهم يخشون عادية - سلطانهم على من يتخلفونة من ذريتهم لما له عليهم من الرق أو الولاء ولما يخشى من معاطب الملك ونكباته. فاستكثروا من بناء المدارس والزوايا والربط ووقفوا عليها الأوقاف المغلة يجعلون فيها شركاً لولدهم ينظر عليها أو يصيب منها مع ما فيهم غالباً من الجنوح إلى الخير والصلاح والتماس الأجور في المقاصد والأفعال. فكثرت الأوقاف لذلك وعالمت الغلات والفوائد وكثر طالب العلم ومعلمه بكثرة جرايتهم منها وارتحل إليها الناس في طلب العلم من العراق والمغرب ونفقت بها أسواق العلوم وزخرت
الفصل الرابع في أصناف العلوم الواقعة في العمران لهذا العهد
اعلم أن العلوم التي يخوض فيها البشر ويتداولونها في الأمصار تحصيلاً وتعليماً هي على صنفين: صنف طبيعي للإنسان يهتدي إليه بفكره وصنف نقلي يأخذه عمن وضعه. والأول هي العلوم الحكمية الفلسفية وهي التي يمكن أن يقف عليها الإنسان بطبيعة فكره ويهتدي بمداركه البشرية إلى موضوعاتها ومسائلها وأنحاء براهينها ووجوه تعليمها حتى يقفه نظره وبحثه على الصواب من الخطإ فيها من حيث هو إنسان ذو فكر. والثاني هي العلوم النقلية الوضعية وهي كلها مستندة إلى الخبر عن الواضع الشرعي ولا مجال فيها للعقل إلا في إلحاق الفروع من مسائلها بالأ صول لأن الجزئيات الحادثة المتعاقبة لا تندرج تحت النقل الكلي بمجرد وضعه فتحتاج إلى الإلحاق بوجه قياسي. إلا أن هذا القياس يتفرع عن الخبر بثبوت الحكم في الأصل وهو نقلي فرجع هذا القياس إلى النقل لتفرعه عنه. وأصل هذه العلوم النقلية كلها هي الشرعيات من الكتاب والسنة التي هي مشروعة لنا من الله ورسوله وما يتعلق بذلك من العلوم التي تهيأوها للإفادة. ثم يستتبع ذلك علوم اللسان العربي الذي هو لسان الملة وبه نزل القرآن. وأصناف هذه العلوم النقلية كثيرة لأن المكلف يجب عليه أن يعرف أحكام الله تعالى المفروضة عليه وعلى أبناء جنسه وهي مأخوذة من الكتاب والسنة بالنمق أو بالإجماع أو بالإلحاق فلا بد من النظر في الكتاب: ببيان ألفاظه أولاً وهذا هوعلم التفسير ثم بإسناد نقله وروايته إلى النبي صلى الله عليه وسلم الذي جاء به من عند الله واختلاف روايات القراء في قراءته وهذا هو علم القراءات ثم بإسناد السنة إلى صاجها والكلام في الرواة الناقلين لها ومعرفة أحوالهم وعدالتهم ليقع الوثوق بأخبارهم ويعمل ما يجب العمل بمقتضاه من ذلك. وهذه هي علوم الحديث. ثم لا بد في استنباط هذه الأحكام من أصولها من وجه قانوني يفيذنا العلم بكيفية هذا الاستنباط وهذا هو أصول الفقه. وبعد هذا تحصل الثمرة بمعرفة أحكام الله تعالى المكلفين وهذا هو الفقه. ثم إن التكاليف: منها بدني ومنها قلبي وهو المختص بالإيمان وما يجب أن يعتقد مما لا يعتقد. وهذه هي العقائد الإيمانية في الذات والصفات وأمور الحشر والنعيم والعذاب والقدر. والحجاج عن هذه بالأدلة العقلية هو علم الكلام. ثم النظر في القرآن والحديث لا بد أن تتقدمه العلوم اللسانية لأنه متوقف عليها وهي أصناف. فمنها علم اللغة وعلم النحو وعلم البيان وعلم الأدب حسبما نتكلم عليها كلها. وهذه العلوم النقلية كلها مختصة بالملة الإسلامية وأهلها وإن كانت كل ملة على الجملة لا بد فيها من مثل ذلك فهي مشاركة لها في الجنس البعيد من حيث إنها علوم الشريعة المنزلة من عند الله تعالى على صاحب الشريعة المبلغ لها. وأما على الخصوص فمباينة لجميع الملل لأنها ناسخة لها. وكل ماقبلها من علوم الملل فمهجورة والنظر فيها محظور. فقد نهى الشرع عن النظر في الكتب المنزلة غير القرآن. وقال صلى الله عليه وسلم: " لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ". ورأى النبي صلى الله عليه وسلم في يد عمر رضي الله عنه ورقة من التوراة فغضب حتى تبين الغضب في وجهه ثم قال: ألم آتكم بها بيضاء نقية والله لو كان موسى حياً ما وسعه إلا اتباعي. ثم إن هذه العلوم الشرعية النقلية قد نفقت أسواقها في هذه الملة بما لامزيد عليه وانتهت فيها مدارك الناظرين إلى الغاية التي لا شيء فوقها وهذبت الاصطلاحات ورتبت الفنون فجاءت من ورا الغاية في الحسن والتنميق. وكان لكل فن رجال يرجع إليهم فيه وأوضاع يستفاد منها التعليم. واختص المشرق من ذلك والمغرب بما هو مشهور حسبما نذكره الآن عند تعديد هذه الفنون. وقد كسدت لهذا العهد أسواق العلم بالمغرب لتناقص العمران فيه وانقطاع سند العلم والتعليم كما قدمناه في الفصل قبله. وما أدري ما فعل الله بالمشرق والظن به نفاق العلم فيه واتصال التعليم في العلوم وفي سائر الصنائع الضرورية والكمالية لكثرة عمرانه والحضارة ووجود الإعانة لطالب العلم بالجراية من الأوقاف التي اتسعت بها أرزاقهم. والله سبحانه وتعالى هو الفعال لما يريد وبيده التوفيق والإعانة.
الفصل الخامس علوم القرآن من التفسير والقراءات
القرآن هو كلام الله المنزل على نبيه المكتوب بين دفتي المصحف. وهو متواتر بين الأمه إلا أن الصحابة رووه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على طرق مختلفة في بعض ألفاظه وكيفيات الحروف في أدائها وتنوقل ذلك واشتهر إلى أن استقرت منها سبع طرق معينة تواتر نقلها أيضاً بأدائها واختصت بالانتساب إلى من اشتهر بروايتها من الجم الغفير فصارت هذه القراءات السبع أصولاً للقراءة. وربما زيد بعد ذلك قراءات أخر لحقت بالسبع إلا أنها عند أئمة القراءة لا تقوى قوتها في النقل. وهذه القراءات السبع معروفة في كتبها. وقد خالف بعض الناس في تواتر طرقها لأنها عندهم كيفيات للأداء وهو غير منضبط. وليس كذلك عندهم بقادح في تواتر القرآن. وأباه الأكثر وقالوا بتواترها وقال آخرون بتواتر غير الأداء منها كالمد والتسهيل لعدم الوقوف على كيفيته بالسمع وهو الصحيح. ولم يزل القراء يتداولون هذه القراءات وروايتها إلى أن كتبت العلوم ودونت فكتبت فيما كتب من العلوم وصارت صناعة مخصوصة وعلماً منفرداً وتناقله الناس بالمشرق والأندلس في جيل بعد جيل إلى أن ملك بشرق الأندلس مجاهد من موالي العامريين وكان معتنياً بهذا الفن من بين فنون القرآن لما أخذه به مولاه المنصور بن أبي عامر واجتهد في تعليمه وعرضه على من كان من أئمة القراء بحضرته فكان سهمه في ذلك وافراً. واختص مجاهد بعد ذلك بإمارة دانية والجزائر الشرقية فنفقت بها سوق القراءة لما كان هو من أئمتها وبما كان له من العناية بسائر العلوم عموماً وبالقراءات خصوصاً. فظهر لعهده أبو عمرو الداني وبلغ الغاية فيها ووقفت عليه معرفتها. وانتهت إلى روايته أسانيدها وتعمدت تآليفه فيها. وعول الناس عليها وعدلوا عن غيرها واعتمدوا من بينها كتاب التيسير له. ثم ظهر بعد ذلك فيما يليه من العصور والأجيال أبو القاسم بن فيره من أهل شاطبة فعمد إلى تهذيب ما دونه أبو عمرو وتلخيصه. فنظم ذلك كله في قصيدة لغز فيها أسماء القراء بحروف " أ ب ج د " على ترتيب أحكمه ليتيسرعليه ما قصده من الاختصار وليكون أسهل للحفظ لأجل نظمها. فاستوعب فيها الفن استيعاباً حسناً وعني الناس بحفظها وتلقينها للولدان المتعلمين وجرى العمل على ذلك في أمصار المغرب والأندلس. وربما أضيف إلى فن القراءات فن الرسم أيضاً وهي أوضاع حروف القرآن في المصحف ورسومه الخطية لأن فيه حروفاً كثيرة وقع رسمها على غير المعروف من قياس الخط كزيادة اليا في باييد وزيادة الألف في لا أذبحنه ولا أوضعوا والواو في جزاؤ الظالمين وحذف الألفات في مواضع دون أخرى وما رسم فيه من التا آت ممدوداً والأصل فيه مربوط على شكل الهاء وغير ذلك. وقد مر تعليل هذا الرسم المصحفي عند الكلام في الخط. فلما جاءت هذه مخالفة لأوضاع الخط وقانونه احتيج إلى حصرها فكتب الناس فيها أيضاً عن كتبهم في العلوم. وانتهت بالمغرب إلى أبي عمرو الداني المذكور فكتبت فيها كتباً من أشهرها: كتاب المقنع وأخذ به الناس وعولوا عليه. ونظمه أبو القاسم الشاطبي في قصيدته المشهورة على روي الراء وولع الناس بحفظها. ثم كثر الخلاف في الرسم في كلمات وحروف أخرى ذكرها أبو داود سليمان بن نجاج من موالي مجاهد في كتبه وهو من تلاميذ أبي عمرو الداني والمشتهر بحمل علومه ورواية كتبه. ثم نقل بعده خلاف آخر فنظم الخراز من المتأخرين بالمغرب أرجوزة أخرى زاد فيها على المقنع خلافاً كثيراً وعزاه لناقليه واشتهرت بالمغرب واقتصر الناس على حفظها. وهجروا بها كتب أبي وأبي عمرو والشاطبي في الرسم. التفسير وأما التفسير فاعلم أن القرآن نزل بلغة العرب وعلى أساليب بلاغتهم فكانوا كلهم يفهمونه ويعلمون معانيه في مفرداته وتراكيبه. وكان ينزل جملاً جملاً وآيات آيات لبيان التوحيد والفروض الدينية بحسب الوقائع. ومنها ما هو في العقائد الإيمانية ومنها ما هو في أحكام الجوارح ومنها ما يتقدم ومنها ما يتأخر ويكون ناسخاً له. وكان النبي صلى الله عليه وسلم هو المبين لذلك كما قال تعالى: " لتبين للناس ما نزل إليهم " فكان النبي صلى الله عليه وسلم يبين المجمل ويميز الناسخ من المنسوخ ويعرفه أصحابه فعرفوه وعرفوا سبب نزول الآيات ومقتضى الحال منها منقولاً عنه. كما علم من قوله تعالى: " إذا جاء نصر الله والفتح " أنها نعي النبي صلى الله عليه وسلم وأمثال ذلك ونقل ذلك عن الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين. وتداول ذلك التابعون من بعدهم ونقل ذلك عنهم. ولم يزل ذلك متناقلاً بين الصدر الأول والسلف حتى صارت المعارف علوماً ودونت الكتب فكتب الكثير من ذلك ونقلت الآثار الواردة فيه عن الصحابة والتابعين. وانتهى ذلك إلى الطبري والواقدي والثعالبي وأمثالهم من المفسرين فكتبوا فيه ما شاء الله أن يكتبوه من الآثار. ثم صارت علوم اللسان صناعية من الكلام في موضوعات اللغة وأحكام الإعراب والبلاغة في التراكيب فوضعت الدواوين في ذلك بعد أن كانت ملكات للعرب لا يرجع فيها إلى نقل ولا كتاب فتنوسي ذلك وصارت تتلقى من كتب أهل اللسان. فاحتيج إلى ذلك في تفسير القرآن لأنه بلسان العرب وعلى منهاج بلاغتهم. وصار التفسيرعلى صنفين: تفسير نقلي مستند إلى الآثار المنقولة عن السلف وهي معرفة الناسخ والمنسوخ وأسباب النزول ومقاصد الآي. وكل ذلك لا يعرف إلا بالنقل عن الصحابة والتابعين. وقد جمع المتقدمون في ذلك وأوعوا إلا أن كتبهم ومنقولاتهم تشتمل على الغث والسمين والمقبول والمردود. والسبب في ذلك أن العرب لم يكونوا أهل كتاب ولا علم وإنما غلبت عليهم البداوة والأمية. فإذا تشوقوا إلى معرفة شيء مما تتشوق إليه النفوس البشرية في أسباب المكونات وبدء الخليقة وأسرار الوجود فإنما يسألون عنه أهل الكتاب قبلهم ويستفيدونه منهم وهم أهل التوراة من اليهود ومن تبع دينهم من النصارى. وأهل التوراة الذين بين العرب يومئذ! بادية مثلهم ولا يعرفون من ذلك إلا ما تعرفه العامة من أهل الكتاب ومعظمهم من حمير الذين أخذوا بدين اليهودية. فلما أسلموا بقوا على ما كان عندهم مما لا تعلق له بالأحكام الشرعية التي يحتاطون لها مثل أخبار بدء الخليقة وما يرجع إلى الحدثان والملاحم وأمثال ذلك. وهؤلاء مثل كعب الأحبار ووهب بن منبه وعبد الله بن سلام وأمثالهم. فامتلأت التفاسير من المنقولات عندهم في أمثال هذه الأغراض أخباراً موقوفة عليهم وليست مما يرجع إلى الأحكام فيتحرى في الصحة التي يجب بها العمل. وتساهل المفسرون في مثل ذلك وملؤوا كتب التفسير بهذه المنقولات. وأصلها كما قلناه عن أهل التوراة الذين يسكنون البادية ولا تحقيق عندهم بمعرفة ما ينقلونه من ذلك إلا أنهم بعد صيتهم وعظمت أقدارهم لما كانوا عليه من المقامات في الدين والملة فتلقيت بالقبول من يومئذ. فلما رجع الناس إلى التحقيق والتمحيص وجاء أبو محمد بن عطية من المتأخرين بالمغرب فلخص تلك التفاسير كلها وتحرى ما هو أقرب إلى الصحة منها ووضع ذلك في كتاب متداول بين أهل المغرب والأندلس حسن المنحى. وتبعه القرطبي في تلك الطريقة على منهاج واحد في كتاب أخر مشهور بالمشرق. والصنف الآخر من التفسير وهو ما يرجع إلى اللسان من معرفة اللغة والإعراب والبلاغة في تأدية المعنى بحسب المقاصد والأساليب. وهذا الصنف من التفسير قل أن ينفرد عن الأول إذ الأول هو المقصود بالذات. وإنما جاء هذا بعد أن صار اللسان وعلومه صناعات. نعم قد يكون في بعض التفاسير غالباً. ومن أحسن ما اشتمل عليه هذا الفن من التفسير كتاب الكشاف للزمخشري من أهل خوارزم العراق إلا أن مؤلفه من أهل الاعتزال في العقائد فيأتي بالحجاج على مذاهبهم الفاسدة حيث تعرض له في آي القرآن من طرق البلاغة. فصار بذلك للمحققين من أهل السنة انحراف عنه وتحذير للجمهور من مكامنه مع إقرارهم برسوخ قدمه فيما يتعلق باللسان والبلاغة. وإذا كان الناظر فيه واقفاً مع ذلك على المذاهب السنية محسناً للحجاج عنها فلا جرم أنه مأمون من غوائله فليغتنم مطالعته لغرابة فنونه في اللسان. ولقد وصل إلينا في هذه العصور تأليف لبعض العراقيين وهو شرف الدين الطيبي من أهل توريز من عراق العجم شرح فيه كتاب الزمخشري هذا وتتبع ألفاظه وتعرض لمذاهبه في الاعتزال بأدلة تزيفها. ويبين أن البلاغة إنما تقع في الآية على ما يراه أهل السنة لا على ما يراه المعتزلة فأحسن في ذلك ما شاء مع إمتاعه في سائر فنون البلاغة. وفوق كل ذي علم عليم.
الفصل السادس علوم الحديث
وأما علوم الحديث فهي كثيرة ومتنوعة لأن منها ما ينظر في ناسخه ومنسوخه وذلك بما ثبت في شريعتنا من جواز النسخ ووقوعه لطفاً من الله بعباده وتخفيفاً عنهم باعتبار مصالحهم التي تكفل الله لهم بها قال تعالى: " ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ". ومعرفة الناسخ والمنسوخ وإن كان عاماً للقرآن والحديث إلا أن الذي في القرآن منه اندرج في تفاسيره وبقي ما كان خاصاً بالحديث راجعاً إلى علومه فإذا تعارض الخبران بالنفي والإثبات وتعذر الجمع بينهما ببعض التآويل وعلم تقدم أحدهما تعين أن المتأخر ناسخ. وهو من أهم علوم الحديث وأصعبها. قال الزهري: " أعيا الفقهاء وأعجزهم أن يعرفوا ناسخ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من منسوخه ". وكان للشافعي رضي الله عنه فيه قدم راسخة. ومن علوم الحديث النظر في الأسانيد ومعرفة ما يجب العمل به من الأحاديث بوقوعه على السند الكامل الشروط لأن العمل إنما وجب بما يغلب على الظن صدقه من أخباررسول الله صلى الله عليه وسلم فيجتهد في الطريق التي تحصل ذلك الظن وهو بمعرفة رواة الحديث بالعدالة والضبط. وإنما يثبت ذلك بالنقل عن أعلام الدين بتعديلهم وبراءتهم من الجرح والغفلة ويكون لنا ذلك دليلاً على القبول أو الترك. وكذلك مراتب هؤلاء النقلة من الصحابة والتابعين وتفاوتهم في ذلك وتميزهم فيه واحداً واحداً. وكذلك الأسانيد تتفاوت باتصالها وانقطاعها بأن يكون الراوي لم يلق الراوي الذي نقل عنه وبسلامتها من العلل الموهنة لها وتنتهي بالتفاوت إلى طرفين فحكم بقبول الأعلى ورد الأسفل. ويختلف في المتوسط بحسب المنقول عن أئمة الشأن. ولهم في ذلك ألفاظ اصطلحوا على وضعها لهذه المراتب المرتبة مثل الصحيح والحسن والضعيف والمرسل والمنقطع والمعضل والشاذ والغريب وغير ذلك من ألقابه المتداولة بينهم. وبوبوا على كل واحد منها ونقلوا ما فيه من الخلاف لأئمة اللسان أو الوفاق. ثم النظر في كيفية أخذ الرواة بعضهم عن بعض بقراءة أو كتابة أو مناولة أو إجازة وتفاوت رتبها وما للعلماء في ذلك من الخلاف بالقبول والرد. ثم اتبعوا ذلك بكلام في ألفاظ تقع في متون الحديث من غريب أو مشكل أو تصحيف أو مفترق منها أو مفترق وما يناسب ذلك. هذا معظم ما ينظر فيه أهل الحديث وغالبه. وكانت أحوال نقلة الحديث في عصور السلف من الصحابة والتابعين معروفة عند أهل بلده فمنهم بالحجاز ومنهم بالبصرة والكوفة من العراق ومنهم بالشام ومصر. والجميع معروفون مشهورون في أعصارهم. وكانت طريقة أهل الحجاز في أعصارهم في الأسانيد أعلى ممن سواهم وأمتن في الصحة لاشتدادهم في شروط النقل من العدالة والضبط وتجافيهم عن قبول المجهول الحال في ذلك وسيد الطريقة الحجازية بعد السلف الإمام مالك عالم المدينة رضي الله تعالى عنه ثم أصحابه مثل الإمام أبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي رضي الله عنه وابن وهب وابن وكان علم الشريعة في مبدإ هذا الأمر نقلاً صرفاً شمر لها لسلف وتحروا الصحيح حتى أكملوها. وكتب مالك رحمه اللة كتاب الموطإ أودعه أصول الأحكام من الصحيح المتفق عليه ورتبه على أبواب الفقه ثم عني الحفاظ بمعرفة طرق الأحاديث وأسانيدها المختلفة. وربما يقع إسناد الحديث من طرق متعددة عن رواة مختلفين وقد يقع الحديث أيضاً في أبواب متعدده باختلاف المعاني التي اشتمل عليها. وجاء محمد بن إسماعيل البخاري إمام المحدثين في عصره فخرج أحاديث السنة على أبوابها في مسنده الصحيح بجميع الطرق التي للحجازيين والعراقيين والشاميين. واعتمد منها ما أجمعوا عليه دون ما اختلفوا فيه وكرر الأحاديث يسوقها في كل باب بمعنى ذلك الباب الذي تضمنه الحديث فتكررت لذلك أحاديثه حتى يقال: إنه اشتمل على تسعة ألاف حديث ومائتين منها ثلاثة آلاف متكررة وفرق الطرق والأسانيد عليها مختلفه في كل باب. ثم جاء الإمام مسلم بن الحجاج القشيري رحمه الله تعالى فألف مسنده الصحيح حذا فيه حذو البخاري في نقل المجمع عليه وحذف المتكرر منها. وجمع الطرق والأسانيد وبوبه على أبواب الفقه وتراجمه. ومع ذلك فلم يستوعبا الصحيح كله. وقد استدرك الناس عليهما في ذلك. ثم كتب أبو داود السجستاني وأبو عيسى الترمذي وأبو عبد الرحمن النسائي في السنن بأوسع من الصحيح وقصدوا ما توفرت فيه شروط العمل إما من الرتبة العالية في الأسانيد وهو الصحيح كما هو معروف وإما من الذي دونه من الحسن وغيره ليكون ذلك إماماً للسنة والعمل. وهذه هي المسانيد المشهورة في الملة وهي أمهات كتب الحديث في السنة فإنها وإن تعددت ترجع إلى هذه في الأغلب. ومعرفة هذه الشروط والاصطلاحات كلها هي علم الحديث وربما يفرد عنها الناسخ والمنسوخ فيجعل فناً برأسه وكذا الغريب. وللناس فيه تآليف مشهورة ثم المؤتلف والمختلف. وقد ألف الناس في علوم الحديث وأكثروا. ومن فحول علمائه وأئمتهم أبو عبد الله الحاكم وتآليفه فيه مشهورة وهو الذي هذبه وأظهر محاسنه. وأشهر كتاب للمتأخرين فيه كتاب أبي عمرو بن الصلاح كان لعهد أوئل المائة السابعة وتلاه محيي الدين النووي بمثل ذلك. والفن شريف في مغزاه لأنه معرفة ما تحفظ به السنن المنقولة عن صاحب الشريعة. وقد انقطع لهذا العهد تخريج شيء من الأحاديث واستدراكها على المتقدمين إذ العادة تشهد بأن هؤلاء الأئمة على تعددهم وتلاحق عصورهم وكفايتهم واجتهادهم لم يكونوا ليغفلوا شيئاً من السنة أو يتركوه حتى يعثر عليه المتأخر هذا بعيد عنهم. وإنما تنصرف العناية لهذا العهد إلى تصحيح الأمهات المكتوبة وضبطها بالرواية عن مصنفيها والنظر في أسانيدها إلى مؤلفها وعرض ذلك على ما تقرر في علم الحديث من الشروط والأحكام لتتصل الأسانيد فأما البخاري وهو أعلاها رتبة فاستصعب الناس شرحه واستغلقوا منحاه من أجل ما يحتاج إليه من معرفة الطرق المتعددة ورجالها من أهل الحجاز والشام والعراق ومعرفة أحوالهم واختلاف الناس فيهم. ولذلك يحتاح إلى إمعان النظر في التفقه في تراجمه لأنه يترجم الترجمة ويورد فيها الحديث بسند أو طريق ثم يترجم أخرى ويورد فيها ذلك الحديث بعينه لما تضمنه من المعنى الذي ترجم به الباب. وكذلك في ترجمة وترجمة إلى أن يتكرر الحديث في أبواب كثيرة بحسب معانيه وأخلافها. ومن شرحه ولم يستوف هذا فيه فلم يوف حق الشرح: كابن بطال وابن المهذب وابن التين ونحوهم. ولقد سمعت كثيراً من شيوخنا رحمهم الله يقولون: شرح كتاب البخاري دين على الأمة يعنون أن أحداً من علماء الأمة لم يوف ما يجب له من بهذا الاعتبار. وأما صحيح مسلم فكثرت عناية علماء المغرب به وأكبوا عليه وأجمعوا على تفضيله على كتاب البخاري من غير الصحيح مما لم يكن على شرطه وأكثر ما وقع له في التراجم. وأملى الإمام المارزي من فقهاء المالكية عليه شرحاً وسماه المعلم بفوائد مسلم. اشتمل على عيون من علم الحديث وفنون من الفقه. ثم أكمله القاضي عياض من بعده وتممه وسماه إكمال المعلم. وتلاهما محيي الدين النووي بشرح استوفى ما في الكتابين وزاد عليهما فجاء شرحاً وافياً. وأما كتب السنن الأخرى وفيها معظم مآخذ الفقهاء فأكثر شرحها في كتب الفقه إلا ما يختص بعلم الحديث فكتب الناس عليها واستوفوا من ذلك ما يحتاج إليه من علم الحديث وموضوعاتها والأسانيد التي اشتملت على الأحاديث المعمول بها في السنة. واعلم أن الأحاديث قد تميزت مراتبها لهذا العهد بين صحيح وحسن وضعيف ومعلول وغيرها تنزلها أئمة الحديث وجهابذته وعرفوها. ولم يبق طريق في تصحيح ما يصح من قبل ولقد كان الأئمة في الحديث يعرفون الأحاديث بطرقها وأسانيدها بحيث لو روي حديث بغير سنده وطريقه يفطنون إلى أنه قد قلب عن وضعه ولقد وقع مثل ذلك للإمام محمد بن إسماعيل البخاري حين ورد على بغداد وقصد المحدثون امتحانه فسألوه عن أحاديث قبلوا أسانيدها فقال: " لا أعرف هذه ولكن حدثني فلان!. ثم أتى بجميع تلك الاحاديث على الوضع الصحيح ورد كل متن إلى سنده وأقروا له بالامامة. واعلم أيضاً أن الأئمة المجتهدين تفاوتوا في الإكثار من هذه الصناعة والإقلال فابو حنيفة رضي اللة تعالى عنه يقال بلغت روايته إلى سبعة عشر حديثا أو نحوها ومالك رحمه الله إنما صح عنده ما في كتاب الموطأ وغايتها ثلاثمائة حديث أو نحوها وأحمد بن حنبل رحمه الله تعالى في مسنده خمسون ألف حديث ولكل ما أداه إليه اجتهاده في ذلك. وقد تقول بعض المبغضين المتعسفين إلى ان منهم من كان قليل البضاعة في الحديث فلهذا قلت! روايته. ولا سبيل إلى هذا المعتقد في كبار الأئمة لأن الشريعة إنما تؤخذ من الكتاب والسنة. ومن كان قليل البضاعة من الحديث فيتعين عليه طلبه وروايتة والجد والتشمير في ذلك لياخذ الدين عن أصول صحيحة ويتلقى الاحكام عن صاحبها المبلغ لها. وإنما قلل منهم من قلل الرواية لأجل المطاعن التي تعترضه فيها والعلل التي تعرض في طرقها سيما والجرح مقدم عند الأكثر فيؤديه الاجتهاد إلى ترك الاخذ بما يعرض مثل ذلك فيه من الأحاديث وطرق الأسانيد. ويكثر ذلك فتقل روايته لضعف في الطرق. هذا مع أن! أهل الحجاز أكثر رواية للحديث من أهل العراق لأن المدينة دار الهجرة وما 8 وى الصحابة ومن انتقل منهم إلى العراق كان شغلهم بالجهاد أكثروالامام أبوحنيفة إنما قلت روايته لما شدد في شروط الرواية والتحمل وضعف رواية الحديث اليقيني إذا عارضها الفعل النفسي. وقلت من أجلها روايته فقل حديثه. لا أنه ترك رواية الحديث متعمدا فحاشاه من ذلك. ويدل على أنه من كبإر المجتهدين في علم الحديث اعتماد مذهبه بينهم والتعويل عليه واعتباره رداً وقبولا. واما غيره من المحدثين وهم الجمهور فتوسعوا في الشروط وكثر حديثهم وروى الطحاوي فاكثر وكتب مسنده وهو جليل القدر إلا أنه لا يعدل الصحيحين لأن الشروط التي اعتمدها البخاري ومسلم في كتابيهما مجمع عليها بين الأمة كما قالوه. وشروط الطحاوي في غير متفق عليها كالرواية عن المستور الحال وغيره فلهذا قدم الصحيحان بل وكتب السنن المعروفة قدمت عليه لتأخر شروطه عن شروطهم. ومن أجل هذا قيل في الصحيحين بالإجماع على قبولهما من جهة الإجماع على صحة ما فيهما من الشروط المتفقق عليها. فلا تأخذك ريبة في ذلك فالقوم أحق الناس بالظن الجميل بهم والتماس المخارج الصحيحة لهم. والله سبحانه وتعالى أعلم بما في حقائق الآمور.